سورة الأنبياء - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} [الأنبياء: 21/ 98- 103].
مطلع الآيات: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ} مخاطبة لكفار مكة، مفادها: إنكم أيها المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان، مع أصنامكم: حصب جهنم، أي وقود النار، تدخلونها جميعا، وتخلدون فيها، والورود في هذه الآية: ورود الدخول، وحرق الأصنام بالنار، على جهة التوبيخ لعابديها.
وقد نزلت الآية التي بعدها حينما اعترض عبد الله بن الزّبعرى على رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، قائلا: إن عيسى وعزيرا ونحو هما قد عبدا من دون الله، فيلزم أن يكونا حصبا لجهنم، فنزلت آية: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى}.
وأكد الله تعالى قبل بيان نجاة أهل الإيمان على إحراق الأصنام للتوبيخ، بأنه لو كانت هذه الأصنام آلهة صحيحة، تضر وتنفع كما يدعي عبدتها، ما دخلوا النار، لأن أبسط شيء في الفكر: أن الذات أو النفس تدفع الضر عن حالها، وكل تلك الآلهة المزيفة المعبودة من دون الله، مخلدة في نيران جهنم، دائمة العذاب فيها، لا مخرج لهم منها.
وللمعذّبين من شدة العذاب أنين وزفير، والزفير: صوت المعذب، وهو كشهيق الحمير وشبهه، إلا أنه من الصدر، وهم في النار لا يسمعون فيها خبرا مفرحا، ولا شيئا سارّا من القول، بل يسمعون صوت الزبانية الذين يتولون تعذيبهم.
أما أهل السعادة: فليسوا من المعذّبين لأنهم لم يرضوا بعبادتهم أنفسهم، ولا دعوا إليه، فهؤلاء سبقت لهم من الله الحسنى، أي تقرر في علم الله أنهم بسبب التزامهم الإيمان وصالح الأعمال في الدنيا، مبعدون عن دخول النار، وهم مبشّرون بالجنة والثواب العظيم، وموفّقون للعمل الصالح، كما قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس: 10/ 26]. فسقط بذلك اعتراض عبد الله بن الزبعرى على ظاهر الآية السابقة: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ...} فإن المعبودين من غير علم منهم ولا رضا بعبادتهم من قبل الجاهلين هم ناجون من العذاب، وأوصاف نعيم السعداء أربعة: هي أنهم لا يسمعون حسيس النار، أي صوتها وحريقها في الأجساد وشررها، وهم ماكثون أبدا على الدوام في الجنان، يتمتعون بما اشتهت أنفسهم من نعيم الجنة ولذائذها، ولا يحزنهم الفزع الأكبر، أي لا تخيفهم أهوال القيامة، بعد قيامهم من قبورهم للحساب، إلى أن يصلوا إلى الجنة، وتستقبلهم الملائكة بالسلام عليهم، والتبشير لهم، قائلين لهم: هذا يومكم الذي وعدتم فيه الثواب والنعيم، إنه يوم المسرة الأكبر، ويوم الثواب والفرحة الأعظم، ويوم الحسنى، والحسنى: الرحمة وحتمية التفضيل.
ألا ما أعظم الفرق الشاسع بين مصير هؤلاء السعداء، فهم المخلّدون في النعيم، المتمتعون بأطيب وأحسن الأحوال، وأما أولئك الأشقياء فعلى العكس من ذلك تماما، إنهم مخلدون في الجحيم، وفي أسوأ الأحوال، وأتعس الأوصاف والأوضاع.
طي السماء وإرث الأرض:
في يوم القيامة تتبدى عجائب، وتظهر أحوال خطيرة، تنبئ عن عظمة القدرة الإلهية، وتذهل منها العقول والأفكار، من هذه العجائب تبدّد السماوات وطيّها كطي سجل الكتاب، وتغيّر الأرض تغيرا غير منتظر، وسرعة الحساب، وتقرير مصير الخلائق على نحو غريب، وسوق الناس إلى مصائرهم سوقا سريعا، إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار محرقة تتلظى بها الجلود، وتحترق بها الأكباد والقلوب، وهذا ما أخبرت عنه الآيات الآتية:


{يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 21/ 104- 106].
إن الملائكة الكرام تستقبل وفود أهل الإيمان، وتتلقاهم مبشرين مهللين، يوم يطوي الله تعالى السماء، بواسطة ملك كما يطوى السجل، أي الصحيفة المخصصة للكتابة، وهذا الطي كائن حتما، يوم يعيد الله الخلائق بالبعث خلقا جديدا، كما بدأهم في أول مرة، والله وحده هو القادر على إعادتهم، إنه وعد لا يتخلف، والله قادر على فعل ذلك الطي بيسر وسهولة، كما جاء في آية أخرى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 39/ 67].
أما تبدل السماوات والأرض، فجاء الخبر عنه في قوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم: 14/ 48].
وقوله سبحانه: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} يحتمل معنيين كما ذكر ابن عطية في تفسيره:
أحدهما: أن يكون خبرا عن البعث، أي كما اخترعنا الخلق أولا على غير مثال، كذلك ننشئهم تارة أخرى، فنبعثهم من القبور.
والثاني: أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا.
ثم أخبر الله تعالى عما قضاه وقدره لعباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة ووراثة الأرض، فذكر سبحانه أنه قضى قضاء محتما في كتاب الزبور، بعد التوراة أو القرآن: أن وراثة الأرض في الدنيا والآخرة لا تكون على الدوام والاستقرار إلا لعباد الله الصالحين وهم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى. والذكر: إما التوراة كما قالت فرقة، أو القرآن وهو قول ابن عباس، أو اللوح المحفوظ، والزبور: إما ما أنزله الله على داود عليه السلام، أو أنه اسم يعم جميع الكتب المنزلة، لأنه مأخوذ من «زبرت الكتاب»: إذا كتبته.
والأرض: إما أرض الجنة بقول فرقة، لقوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ} [الزّمر: 39/ 74]. وإما أرض الدنيا في قوله فرقة أخرى، أي كل ما يناله المؤمنون من الأرض، لقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 24/ 55].
إن في هذا المذكور في سورة الأنبياء أو في القرآن بجملته، من الأخبار والوعد والوعيد، والمواعظ المؤثرة، لإبلاغا كافيا ومنفعة تامة لقوم عابدين: وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبّه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات الأنفس.
والعبادة التي يتصف بها العابدون تتضمن الإيمان بالله تعالى، واجتماع أوصاف العبادة التامة من الإيمان، وطاعة الله والخشوع له، مؤهلة أصحابها للتمكن في الأرض في الدنيا، والظفر بالجنة في الآخرة.
النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رحمة للعالمين:
ختمت سورة الأنبياء بعد إيراد سيرتهم وقصصهم ببيان الغاية السامية من بعثة خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه، والتي هي في جوهرها أنه رحمة للعالمين في الدين والدنيا والآخرة، أما في الدين فبإنقاذهم من الجاهلية والضلالة إلى العلم والنور والهداية، وأما في الدنيا فهو لتحقيق العزة والنصر، والتخلّص من الذّلة والمهانة، فإن آمن الناس برسالة النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم سعدوا وصعدوا وارتقوا، وإن أعرضوا وتنكروا، فما على هذا الرسول إلا البلاغ المبين، قال الله تعالى واصفا خاصية رسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم:


{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)} [الأنبياء: 21/ 107- 112].
المعنى: وما أرسلناك أيها النبي محمد بشريعة القرآن وهديه وأحكامه ودستوره إلا لرحمة جميع العالم من الإنس والجن، في الدنيا والآخرة. أما رحمته للمؤمنين: فهي بيّنة تتجلى في تحقيق إسعادهم في دنياهم، ونجاتهم في أخراهم، وأما رحمته للكافرين:
فتظهر في أن الله تعالى رفع عن مختلف الأمم أنواع العذاب الشامل المستأصل، كالطوفان وغيره.
وجوهر رسالة هذا النبي تتمثل في قوله لقومه أهل مكة وكل إنسان: ما يوحى إلي شيء إلا أن الله إله واحد لا شريك له، فاعبدوه وحده فهل أنتم مطيعون، خاضعون لأوامر الله؟! فإن أعرضوا وتركوا ما دعاهم إليه هذا الرسول، فقل لهم: أعلمتكم أني حرب لكم، وأنتم حرب لي، وأخبرتكم خبرا نتساوى في العلم به، وهذا عدل في الاعلام والإخبار: وهو أنني بريء منكم، وأنتم بريئون مني، وقد عرفتكم إنذاراتي، وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى.
وأعلمكم بأنني لا أعرف وقت عقابكم، وإنما هو مترقب في القرب والبعد، فما توعدون به من العذاب، وتغلّب المؤمنين عليكم هو واقع كائن لا محالة، والله هو العالم بتحديد وقته.
إن الله تعالى يعلم الغيب كله، ويعلم ما يظهره الناس وما يسرون، ويعلم ما يطعنون به في الإسلام، وما يضمرونه من الحقد والكيد على المسلمين، وسيجزيكم الله على قليل ذلك وكثيره.
وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم ابتلاء واختبار لكم، وتمتع باللذات والمنافع الدنيوية إلى أجل مسمى، لينظر ماذا تعملون. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ} الضمير يعود على الإملاء والإمهال لهم، والفتنة: الاختبار والابتلاء، والمتاع: ما يستمتع به مدة الحياة الدنيا.
ثم أمر الله نبيه أن يقول على جهة الدعاء: { رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي افصل بيننا وبين قومنا المكذّبين بالحق والعدل، فإنك لا تحكم إلا بالحق، ولا تحب إلا الحق. وفي هذا الدعاء توعد، أي إن الحق هو نصرتي عليكم.
ثم علّم الله نبيه كيفية التوكل عليه، والاستعانة بالله تعالى، أي إن الله ربنا هو المستعان، ويطلب منه العون على وصف الشرك والكفر، والكذب والباطل، ومفاد قولهم المزعوم: أن لله ولدا، وأن محمدا ساحر شاعر، وأن القرآن شعر، وأنهم طامعون في الانتصار على المسلمين، بحيث تكون الشوكة والغلبة لهم.
وهذا الطلب والاحتكام إلى الله: إنذار للمشركين، وإظهار للحق، وتوعد للكفرة، وتهديد بالهزيمة والاندحار أمام جند الحق والإيمان، وأنصار الرحمن والقرآن، وقد تحقق هذا الإنذار، فإن الله نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا هو الحي القيوم. وهذا دليل آخر على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في دعوته، وأنه رسول من عند الله تعالى لخير البشرية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8